من قصص الثبات في حياة الصحابيات [2/2] وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك ...

من قصص الثبات في حياة الصحابيات
[2/2]

وأما أسماء، فبنت الصديق، رضي الله عنها وعن أبيها، تلك التي ضربت في الثبات والجهاد أروع الأمثلة، أسماء التي يخرج أبوها مهاجرا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فيأخذ كل ماله ولا يترك لهم شيئا، فلا تتذمر ولا تتبرم، بل تحتال على جدها ولا تفضح أباها، فعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه، حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر، قالت: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم»، قالت: «وانطلق بها معه»، قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «قلت: كلا يا أبه، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا»، قالت: «فأخذت أحجارا، فوضعتها في كوة البيت، كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال»، قالت: «فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ»، قالت: «ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني قد أردت أن أسكّن الشيخ بذلك» [رواه أحمد وغيره].

ولم تسلم ذات النطاقين من بطش الطاغوت أبي جهل إذ تقول: «لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليه»، فقالوا: «أين أبوك يا بنت أبي بكر؟» قالت: «قلت: لا أدري والله أين أبي»، قالت: «فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي»، قالت: «ثم انصرفوا» [حلية الأولياء].

هكذا حال المسلمة المؤمنة بربها، الظانة به ظن الخير، المستعذِبة العذابَ في سبيل دينها، وإنه لما خرج قوم على خليفة المسلمين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وحاصره الحَجّاج الثقفي في مكة، كانت أسماء تلك الأم التي ثبتت ابنها وحرضته على الموت في سبيل الله تعالى، يقول ابن كثير: «ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحَجّاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني، أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك، يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فلبئس العبد أنت؛ أهلكتَ نفسك وأهلكتَ من قُتل معك، وإن كنتَ على حق فما وهن الدين، وإلى كم خلودكم في الدنيا؟ القتل أحسن [...] ثم جعلت تذكّره بأبيه الزبير، وجدّه أبي بكر الصديق، وجدّته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها، فكان ذلك آخر عهده بها، رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها» [البداية والنهاية].

وأما الخنساء بنت عمرو، فحالها ليس ببعيد عن حال أسماء، فعن أبي وجزة، عن أبيه، قال: «حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة» [الاستيعاب].

فكان للخنساء ما أرادت، وخرج أبناؤها الأربعة يبتغون الموت مظانه فقتلوا جميعهم في يوم واحد، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».

فلله در نساء كهؤلاء، ما قعدن يبكين وينتحبن في ساعات الشدة والبلاء، بل حملن على أعتاقهن هم الدين والأمة، فهذه تثبت زوجا، وتلك تحرض ابنا...
وبمثل هؤلاء تقتدي المسلمة، وإذا اشتدت الأزمات وضاقت الحلقات، تسلت بذكر ثباتهن، واستعطرت بطيب سيرهن.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

من قصص الثبات في حياة الصحابيات [1/2] الجنة... سلعة الله الغالية، خير المقام ومنتهى المرام، ...

من قصص الثبات في حياة الصحابيات
[1/2]

الجنة... سلعة الله الغالية، خير المقام ومنتهى المرام، إليها يتسابق المؤمنون، ويتنافس في نيلها المتنافسون، تحار في كنهها العقول، ويعجز عن وصفها فحل قؤول، غير أنها قد حُفّت بالأشواك لا بالورود، ودماء المشترين وأشلاؤهم على ذلك شهود، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، «بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطّالون، وقام المحبّون ينتظرون أيُّهم يصلح أن يكون نفسه الثمن» [زاد المعاد].

يقول الله -عز وجل- في كتابه العزيز قولا عظيما، طوبى لمن قرأه أو سمعه فتأمله وتدبره: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140-142]، إنه التدبير الرباني المحكم؛ قرح بقرح، ودولة بدولة، والمؤمنون منهم شهداء، والذين آمنوا يُبتلون ليتمايزوا، ويعلو الطيّب على الخبيث، وأما الجنة فثواب من نجح في الاختبار، وصبر عند البلاء، وثبت ساعة الشدة، ولم يفزع أو يسخط، ولم يكن لسان حاله: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وهيهات لمثل هذا أن ينعم بجنان ربه هيهات.

ولا تظنَّنَّ المسلمة الموحدة أنها بمنأى عن دوائر التمحيص والابتلاء، بل إنها في ذلك والرجل سواء بسواء، وأكثر من ذلك؛ قد يكون لها عظيم الدور في تثبيت الزوج والأبناء.

فهذه خديجة وأسماء، وتلك سمية وخنساء وغيرهن كثيرات ممن لا يسع المقام لذكر مناقبهن؛ أما خديجة فأم المؤمنين صاحبة أول قلب يخفق إيمانا بالرسالة المحمدية، خديجة التي كانت ممن ثبّت الله هذا الدين بتثبيتها زوجها سيد المرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم.

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعد نزول الوحي عليه لأول مرة في غار حراء وفزعه منه، أتى خديجة زوجه فأخبرها الخبر ثم قال: (لقد خشيتُ على نفسي)، قالت له خديجة: «كلا أبشر، فوالله، لا يخزيك الله أبدا، والله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...» إن أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وهي تسمع ذاك الخبر العجاب من زوجها، لم تجزع ولم تهلع، ولم تمسك بتلابيب بعلها خوفا من قادم الأيام، ولم تثبّط فؤاده بل ثبّتته، حتى قال العلماء عن كلامها كما نقل النووي فقال: «قال العلماء... وفيه [أي كلام خديجة، رضي الله عنها] أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة -رضي الله عنها- وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها، والله أعلم» [شرح صحيح مسلم].
وتمضي الأيام وينتشر أمر الدعوة ويبطش طواغيت قريش بالموحدين، ويحاصرونهم في شعب أبي طالب ويمنعون عنهم القوت والماء، وأم المؤمنين ثابتة مع زوجها، صابرة محتسبة، يصيبها ما يصيب القوم من جوع وظمأ، وهي من هي، سليلة الحسب والنسب، صاحبة المال والجاه، حتى حوصرت معهم في شعب أبي طالب لعامين، وضرها ما لاقت من جوع وتعب، فماتت وهي صابرة محتسبة، ثابتة على دينها، راض عنها زوجها، عليه الصلاة والسلام، فرضي الله عنها وأرضاها.

أما سمية فهي سمية بنت خياط، أم عمار بن ياسر، وكانت سابع سبعة في الإسلام، وأول شهيدة تسقي بدمائها شجرة التوحيد، نعم يا مسلمة؛ إن أول دماء سالت في سبيل لا إله إلا الله كانت دماء امرأة، فقد كانت سمية وزوجها وابناها من موالي بني مخزوم، ولما أسلموا لقوا صنوفا وألوانا من العذاب، فعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: (أبشروا آل عمار، وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة) [رواه الضياء والحاكم].

إن سمية لم تعذب إلا في الله، كي تعود عن دينها، وتترك سبيل محمد، صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الذي لم يأتهم بمال ولا ذهب ولا فضة، وإنما بدين «جديد» لم يكن عليه الآباء من قبل، بكلمة يشهدونها ويعملون بها فتكون لهم الجنة، ورغم التعذيب الشديد، إلا أن سمية تلك المرأة الضعيفة المستضعفة ثبتت ولم تتزحزح عن دينها، ولم تتراجع عما باتت تعتقده وتدين الله تعالى به، قال ابن إسحاق في «السيرة»: «حدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها آل بني المغيرة على الإسلام، وهي تأبى غيره حتى قتلوها»، فكانت خاتمتها الشهادة بعد صبرها وثباتها إذ طعنها عدو الله أبو جهل بحربة فقتلها.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

عيد الأضحى شعيرة يجب تعظيمها ما هي إلا أيام قليلة ويحلّ علينا يوم النحر (الأضحى)، ذلك اليوم الذي ...

عيد الأضحى شعيرة يجب تعظيمها

ما هي إلا أيام قليلة ويحلّ علينا يوم النحر (الأضحى)، ذلك اليوم الذي جعله الله شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة، وشرعه الله ميقاتا لعبادة عظيمة من عبادات الإسلام وهي النُسُك، أي نحر الأضاحي تقرّبا لله وحده -سبحانه وتعالى- وجعل أيامه مزامنة للأيام المعدودات التي شرع الله فيهن أداء فريضة الحج على المسلمين، كما أمر المؤمنين أن يتخذوه عيدا لأمّة الإسلام، يفرحون فيه بفضل الله، ويهنّئ بعضهم بعضا فيه، ويتّخذونه لهم شعارا يميّزهم عن أمم الشرك والكفر، فلا يشاركون المشركين أعيادهم ومهرجاناتهم، بل يخالفونهم فيها إلى ما شرعه الله لهم من الأعياد، وهما يوما فطرهم ونحرهم.

وقد دلت الأحاديث الكثيرة على أن اتخاذ هذا اليوم عيدا للمسلمين هو شريعة شرعها الله تعالى، منها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم- المدينة قال: (كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى)» [رواه النسائي، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي].

وبذلك يتبيّن أن تعظيم هذا اليوم، واتخاذه عيدا، إنما هو تعظيم لأمر الله تعالى، الذي جعل هذا اليوم خاصّا بأمّة الإسلام، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وأن إظهار الفرح والسرور بهذا اليوم أمر مندوب، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم- لصاحبه أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- في قصة الجواري اللواتي كن يغنين عند أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: (يا أبا بكر، إن لكلّ قومٍ عيدا، وإنّ هذا عيدنا) [رواه البخاري ومسلم]، بخلاف ما يدعو إليه بعض الناس هذه الأيام، ممّن ينهى المسلمين عن اتخاذه عيدا وفرحا بقوله: «لا عيد حتى تتحرّر القدس!»، أو «لا عيد والمسلمون يُقتَّلون في كل مكان!»، وما إلى ذلك من الأقوال المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما لهم عليها من بينة ولا دليل، بل شابهوا فيها قول الرافضة الذين خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بشكر الله -عز وجل- يوم العاشر من محرم على إنجائه موسى -عليه السلام- وقومه من فرعون بالصوم، بأن جعلوه يوم نَوْح ولطم بدعوى أنّه وافق يوم مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما.

ومن صور تعظيم هذا اليوم طاعة الله تعالى فيما أمر به من عبادات مخصوصة به، وعلى رأسها النُسُك وهو نحر الأضاحي قربة لله -عز وجل- فقد قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، لذلك فإن الحرص على أداء هذه العبادة هو حرص على التوحيد، وإظهار له، وصورة من صور البراءة من الطواغيت الذين يذبح المشركون لهم الذبائح تقربا إليهم من دون الله -جل جلاله- وصورة من صور التمايز بين أهل الإيمان وأهل الأوثان ينبغي على الموحّدين إظهارها والحرص عليها.

وقد قال طائفة من الفقهاء بأن هذه العبادة واجبة على كل قادر من المسلمين يأثم بتركها، واتفق من لم يقل بوجوبها على أنها سنّة مؤكّدة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أما وقتها فبعد صلاة يوم النحر، وطيلة أيام التشريق الثلاث التي تليه، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاةً مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله) [رواه البخاري ومسلم].

ومن عبادات هذا العيد أيضا، التكبير عقب الصلوات وفي الطريق إلى صلاة العيد، ورفع الصوت بذلك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصحّ الأقوال في التكبير، الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبَّر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة» [مجموع الفتاوى].

ومن هذه العبادات أداء صلاة العيد مع الجماعة، ومن سننها تأخيرها يوم الفطر، ليتمكّن المسلمون من أداء زكاة فطرهم، بينما يُسنّ تبكيرها يوم النحر ليتمكّن المسلمون من ذبح أضاحيهم، وكذلك فإنه يسنّ أن يَطعم المسلم قبل الصلاة يوم فطره، ولا يَطعم قبل الصلاة يوم نحره حتى يأكل من ذبيحته بعد الصلاة.

ومن صور تعظيم هذه الأيام أن يترك المرء ما يندب فعله في أيام أخرى من السنة، وهو صيام التطوّع، لأنها أيام أكل وشرب كما وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله) [رواه مسلم].

ومن صور تعظيم هذا اليوم اجتناب المعاصي والآثام فيه، كالنياحة على الموتى، والتبرّج وحلق اللحى بدعوى التزيّن، واختلاط الرجال بالنساء من غير المحارم والمصافحة بينهم بدعوى تهنئة العيد، والإسراف في المأكل والمشرب والملبس، وشرب الدخان، والدخول إلى أماكن الفسق والمجون، وسماع الأغاني و مشاهدة المسلسلات والأفلام والمسرحيات والبرامج التي فيها ما حرّم الله بدعوى الفرح بالعيد، وقطع الرحم والتهاجر بين المسلمين، وغير ذلك من المعاصي التي يفعلها بعض الناس في هذه الأيام عوضا عن هجر المنكرات فيها تعظيما لشأنها.

وإننا نحمد الله تعالى أن أعاد علينا هذا العيد ونحن في ظل دولة الخلافة، وفي دار الإسلام، حيث يكون الدين كله لله تعالى وحده لا شريك له، وحيث تحكّم شريعته، وتقام حدوده، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزّ فيها المسلمون، ويخنس المنافقون.

ولكن ما زال في الحلق غصّة من بقاء بيت الله الحرام وما جاوره من الأرض أسيرا بيد المرتدين من طواغيت آل سعود، الذين يمنعون الموحّدين منه كما كان مشركو قريش يفعلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، فيحرمونهم بذلك من أداء فريضة الحج التي افترضها الله على من استطاع إليه سبيلا من المسلمين، وفي الوقت ذاته يفتح أولئك الطواغيت الباب مشرعا أمام إخوانهم المشركين من الرافضة والقبوريين والطواغيت والإخوان المرتدين ليدخلوا المسجد الحرام، وقد أمر الله سبحانه بمنعهم من دخوله بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وتمتد أياديهم النجسة أيضا إلى مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليقيموا مجالسهم الشركية في جواره.

فإن كنا حبسَنا وإخواننا العذر عن أداء ما افترضه الله علينا هذا العام من حج بيته الحرام، فإننا واثقون من فتح الله القريب لنا، كما فتح على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من قبل، بعد أن صدقه وعده، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

ولنطهرنّ مكّة -بإذن الله- من أوثان الطواغيت المتمثلة بمحاكمهم الوضعية الشركية، كما طهرها نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أوثان قريش وأصنامهم، وكما طهرها تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أوثان الصوفيّة والروافض، وما ذلك على الله بعزيز.

• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام
@wmc11ar
...المزيد

عيد الأضحى شعيرة يجب تعظيمها [2/2] ومن عبادات هذا العيد أيضا، التكبير عقب الصلوات وفي الطريق ...

عيد الأضحى شعيرة يجب تعظيمها
[2/2]

ومن عبادات هذا العيد أيضا، التكبير عقب الصلوات وفي الطريق إلى صلاة العيد، ورفع الصوت بذلك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصحّ الأقوال في التكبير، الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبَّر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة» [مجموع الفتاوى].

ومن هذه العبادات أداء صلاة العيد مع الجماعة، ومن سننها تأخيرها يوم الفطر، ليتمكّن المسلمون من أداء زكاة فطرهم، بينما يُسنّ تبكيرها يوم النحر ليتمكّن المسلمون من ذبح أضاحيهم، وكذلك فإنه يسنّ أن يَطعم المسلم قبل الصلاة يوم فطره، ولا يَطعم قبل الصلاة يوم نحره حتى يأكل من ذبيحته بعد الصلاة.

ومن صور تعظيم هذه الأيام أن يترك المرء ما يندب فعله في أيام أخرى من السنة، وهو صيام التطوّع، لأنها أيام أكل وشرب كما وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله) [رواه مسلم].

ومن صور تعظيم هذا اليوم اجتناب المعاصي والآثام فيه، كالنياحة على الموتى، والتبرّج وحلق اللحى بدعوى التزيّن، واختلاط الرجال بالنساء من غير المحارم والمصافحة بينهم بدعوى تهنئة العيد، والإسراف في المأكل والمشرب والملبس، وشرب الدخان، والدخول إلى أماكن الفسق والمجون، وسماع الأغاني و مشاهدة المسلسلات والأفلام والمسرحيات والبرامج التي فيها ما حرّم الله بدعوى الفرح بالعيد، وقطع الرحم والتهاجر بين المسلمين، وغير ذلك من المعاصي التي يفعلها بعض الناس في هذه الأيام عوضا عن هجر المنكرات فيها تعظيما لشأنها.

وإننا نحمد الله تعالى أن أعاد علينا هذا العيد ونحن في ظل دولة الخلافة، وفي دار الإسلام، حيث يكون الدين كله لله تعالى وحده لا شريك له، وحيث تحكّم شريعته، وتقام حدوده، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزّ فيها المسلمون، ويخنس المنافقون.

ولكن ما زال في الحلق غصّة من بقاء بيت الله الحرام وما جاوره من الأرض أسيرا بيد المرتدين من طواغيت آل سعود، الذين يمنعون الموحّدين منه كما كان مشركو قريش يفعلون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، فيحرمونهم بذلك من أداء فريضة الحج التي افترضها الله على من استطاع إليه سبيلا من المسلمين، وفي الوقت ذاته يفتح أولئك الطواغيت الباب مشرعا أمام إخوانهم المشركين من الرافضة والقبوريين والطواغيت والإخوان المرتدين ليدخلوا المسجد الحرام، وقد أمر الله سبحانه بمنعهم من دخوله بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وتمتد أياديهم النجسة أيضا إلى مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليقيموا مجالسهم الشركية في جواره.

فإن كنا حبسَنا وإخواننا العذر عن أداء ما افترضه الله علينا هذا العام من حج بيته الحرام، فإننا واثقون من فتح الله القريب لنا، كما فتح على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من قبل، بعد أن صدقه وعده، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

ولنطهرنّ مكّة -بإذن الله- من أوثان الطواغيت المتمثلة بمحاكمهم الوضعية الشركية، كما طهرها نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أوثان قريش وأصنامهم، وكما طهرها تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أوثان الصوفيّة والروافض، وما ذلك على الله بعزيز.

• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

عيد الأضحى شعيرة يجب تعظيمها [1/2] ما هي إلا أيام قليلة ويحلّ علينا يوم النحر (الأضحى)، ذلك ...

عيد الأضحى شعيرة يجب تعظيمها
[1/2]

ما هي إلا أيام قليلة ويحلّ علينا يوم النحر (الأضحى)، ذلك اليوم الذي جعله الله شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة، وشرعه الله ميقاتا لعبادة عظيمة من عبادات الإسلام وهي النُسُك، أي نحر الأضاحي تقرّبا لله وحده -سبحانه وتعالى- وجعل أيامه مزامنة للأيام المعدودات التي شرع الله فيهن أداء فريضة الحج على المسلمين، كما أمر المؤمنين أن يتخذوه عيدا لأمّة الإسلام، يفرحون فيه بفضل الله، ويهنّئ بعضهم بعضا فيه، ويتّخذونه لهم شعارا يميّزهم عن أمم الشرك والكفر، فلا يشاركون المشركين أعيادهم ومهرجاناتهم، بل يخالفونهم فيها إلى ما شرعه الله لهم من الأعياد، وهما يوما فطرهم ونحرهم.

وقد دلت الأحاديث الكثيرة على أن اتخاذ هذا اليوم عيدا للمسلمين هو شريعة شرعها الله تعالى، منها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم- المدينة قال: (كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى)» [رواه النسائي، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي].

وبذلك يتبيّن أن تعظيم هذا اليوم، واتخاذه عيدا، إنما هو تعظيم لأمر الله تعالى، الذي جعل هذا اليوم خاصّا بأمّة الإسلام، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وأن إظهار الفرح والسرور بهذا اليوم أمر مندوب، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم- لصاحبه أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- في قصة الجواري اللواتي كن يغنين عند أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: (يا أبا بكر، إن لكلّ قومٍ عيدا، وإنّ هذا عيدنا) [رواه البخاري ومسلم]، بخلاف ما يدعو إليه بعض الناس هذه الأيام، ممّن ينهى المسلمين عن اتخاذه عيدا وفرحا بقوله: «لا عيد حتى تتحرّر القدس!»، أو «لا عيد والمسلمون يُقتَّلون في كل مكان!»، وما إلى ذلك من الأقوال المنكرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما لهم عليها من بينة ولا دليل، بل شابهوا فيها قول الرافضة الذين خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بشكر الله -عز وجل- يوم العاشر من محرم على إنجائه موسى -عليه السلام- وقومه من فرعون بالصوم، بأن جعلوه يوم نَوْح ولطم بدعوى أنّه وافق يوم مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما.

ومن صور تعظيم هذا اليوم طاعة الله تعالى فيما أمر به من عبادات مخصوصة به، وعلى رأسها النُسُك وهو نحر الأضاحي قربة لله -عز وجل- فقد قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، لذلك فإن الحرص على أداء هذه العبادة هو حرص على التوحيد، وإظهار له، وصورة من صور البراءة من الطواغيت الذين يذبح المشركون لهم الذبائح تقربا إليهم من دون الله -جل جلاله- وصورة من صور التمايز بين أهل الإيمان وأهل الأوثان ينبغي على الموحّدين إظهارها والحرص عليها.

وقد قال طائفة من الفقهاء بأن هذه العبادة واجبة على كل قادر من المسلمين يأثم بتركها، واتفق من لم يقل بوجوبها على أنها سنّة مؤكّدة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أما وقتها فبعد صلاة يوم النحر، وطيلة أيام التشريق الثلاث التي تليه، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاةً مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله) [رواه البخاري ومسلم].

ومن عبادات هذا العيد أيضا، التكبير عقب الصلوات وفي الطريق إلى صلاة العيد، ورفع الصوت بذلك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصحّ الأقوال في التكبير، الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبَّر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة» [مجموع الفتاوى].

ومن هذه العبادات أداء صلاة العيد مع الجماعة، ومن سننها تأخيرها يوم الفطر، ليتمكّن المسلمون من أداء زكاة فطرهم، بينما يُسنّ تبكيرها يوم النحر ليتمكّن المسلمون من ذبح أضاحيهم، وكذلك فإنه يسنّ أن يَطعم المسلم قبل الصلاة يوم فطره، ولا يَطعم قبل الصلاة يوم نحره حتى يأكل من ذبيحته بعد الصلاة.

ومن صور تعظيم هذه الأيام أن يترك المرء ما يندب فعله في أيام أخرى من السنة، وهو صيام التطوّع، لأنها أيام أكل وشرب كما وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله) [رواه مسلم].


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

الغِلظة والشِدَّة على الكفار في سيرة النبي المختار ﷺ أرسل الله رسوله محمدا -صلى الله عليه ...

الغِلظة والشِدَّة على الكفار في سيرة النبي المختار ﷺ

أرسل الله رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، فصدع بدعوتهم إلى طريق الحق والهدى، فمَن قَبِل نالته هذه الرحمة، ومن ناوأه وعانده، جاهده وقاتله واستعمل معه الشدة والغلظة حتى يخضع لأمر الله، وفي سيرته -صلى الله عليه وسلم- خير شاهد ودليل.

فبعد قفول النبي -صلى الله عليه وسلم- من بدر أمر بقتل الأسير عقبة بن أبي معيط صبرا؛ وذلك لأنه كان من أشد الناس أذية للإسلام والمسلمين، قال الذهبي في «السيرة»: «وقتل بعرق الظبية عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله: من للصبية يا محمد؟ قال: النار؛ فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح؛ وقيل: علي، رضي الله عنه».

وفي أُحُد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الأسير أبي عزة الجمحي، وكان ذا بنات، قال ابن كثير: «ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، وقد كان في الأسارى يوم بدر، فمَنَّ عليه بلا فدية واشترط عليه ألا يقاتله، فلما أُسر يوم أحد قال: يا محمد امنن عليَّ لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك؛ فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين؛ ثم أُمر به فضُربت عنقه، وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين!».

وهذان الأسيران، لم يكن المقام معهما مقام مَنٍّ أو فداء أو رأفة، فإنها إن حصلت كان ذلك مما يؤثر في هيبة رسول رب العالمين، كما أوضح -صلى الله عليه وسلم- حين قتله لأبي عزة.

ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليدع من يؤذي الإسلام والمسلمين آمنا في سربه، وإن كانت أذيته بالقول والتحريض، كما فعل مع اليهودي كعب بن الأشرف.

قال ابن إسحاق: «وجعل يحرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينشد الأشعار، وبكى على أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر، ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل ابنة الحارث ثم شبب بنساء المسلمين».
وهنا صدر الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطف رأس هذا الطاغوت، وسأل عمّن يمكن أن ينفذ هذه العملية، فعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله) فقام محمد بن مسلمة، فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله قال: (نعم)» إلى آخر الحديث [رواه البخاري ومسلم].

وبعد غزوة الأحزاب توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة، ليحاصرهم جزاء نقضهم العهود، فكان حكم الله فيهم أن يُقتل رجالهم جميعا، وتُسبى نساؤهم وذراريهم.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أصيب سعدٌ يوم الخندق، رماه رجلٌ من قريش يقال له ابن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيمة في المسجد يعوده من قريب، فلما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخندق وضع السلاح، فاغتسل، فأتى جبريل -عليه السلام- وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، اخرج إليهم؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فأين؟) فأشار إلى بني قريظة، فقاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحكم فيه إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تُقتل المقاتلة وأن تُسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم...»، قال عروة بن الزبير: «فأُخبرت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لقد حكمتَ فيهم بحكم الله)» [رواه مسلم]، وهكذا كانت الشدة والغلظة على أولئك الغدرة علاجا نافعا وعظة وعبرة لغيرهم.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك قد أخرج بني النضير من ديارهم وغنم أموالهم بعد أن كشف الله له سعيهم لقتله وهو بين أظهرهم، فلما لبث أن خرج وعاد محاصرا ومحاربا لهم فنصره الله عليهم، كما حارب بني قينقاع وحاصرهم، وكذلك فعل مع يهود خيبر إذ حاربهم وفتح حصونهم عنوة [انظر: سيرة ابن هشام].
ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسكت كذلك عن حق مسلم واحد قتل غدرا وظلما، كما يفعل دعاة السوء الذين يثبّطون المسلمين عن القيام لأخذ حقهم ممن قتل وسفك من دمائهم وانتهك من أعراضهم.

قال ابن كثير: «قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا النعم».

عن أنس –رضي الله عنه- أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكلموا بالإسلام فقالوا: «يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف»، واستوخموا المدينة، فأمر لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذود وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمَّروا أعينهم [والتسمير هو أن يَحمي مسمارا فيدنيه من العين دون أن تمسّ العينَ حرارتُه، فتصل حرارته إلى العين فتذيبها]، وقطعوا أيديهم، وتُركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم [رواه البخاري ومسلم].

فهذا عقاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن نهى عن المثلة لكن القصاص ثابت بحقهم وأمثالهم ولم يدع قتلة راعيه طلقاء، بل أرسل سرية تحضرهم وتنفذ فيهم حكم القصاص.

وفي فتح مكة (أعادها الله) أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل أناس وإن تعلقوا بأستار الكعبة، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجلٌ فقال: «ابن خطل متعلق بأستار الكعبة»، فقال: (اقتلوه) [رواه البخاري ومسلم].

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: «لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة، وامرأتين، وقال: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)» [رواه النسائي].

وذلك أيضا لأذيتهم الإسلام والمسلمين، فما كانت أستار الكعبة المشرّفة لتحميهم من شرع رب العالمين بعد الكفر المغلّظ الذي اقترفوه بأيديهم وألسنتهم.

وهذه الشواهد من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وغيرها كثير لا تنفي عنه صفة الرأفة والرحمة ولكنها كما قال تعالى: }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ{ [الفتح: 29]، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- منفذ لأمر الله -عز وجل- الذي قال له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ{ [التوبة: 12].

وكما أنه -صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة فهو نبي الملحمة، وأما النظر إلى الجانب المتعلق برأفته ورحمته مع أولياء الله وإسقاطه على أعداء الله فهذا منهج أولياء الطاغوت الذين أرادوا من المسلمين مداهنة أعدائهم، بل يريدون منهم أن يدخلوا في طاعتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، فإذا ما انتفض المسلم وسارع إلى أعداء الله يثخن فيهم ويعاملهم بمثل ما يعاملون به المسلمين من قتل وتشريد، سارع أولئك الشياطين للإنكار عليه محذرين من تشويه صورة الإسلام والمسلمين، فعن أي إسلام يتحدثون ولأي دين يتبعون؟


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

الغِلظة والشِدَّة على الكفار في سيرة النبي المختار ﷺ [2/2] قال ابن كثير: «قال الواقدي: في شوال ...

الغِلظة والشِدَّة على الكفار في سيرة النبي المختار ﷺ
[2/2]

قال ابن كثير: «قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا النعم».

عن أنس –رضي الله عنه- أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكلموا بالإسلام فقالوا: «يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف»، واستوخموا المدينة، فأمر لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذود وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمَّروا أعينهم [والتسمير هو أن يَحمي مسمارا فيدنيه من العين دون أن تمسّ العينَ حرارتُه، فتصل حرارته إلى العين فتذيبها]، وقطعوا أيديهم، وتُركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم [رواه البخاري ومسلم].

فهذا عقاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن نهى عن المثلة لكن القصاص ثابت بحقهم وأمثالهم ولم يدع قتلة راعيه طلقاء، بل أرسل سرية تحضرهم وتنفذ فيهم حكم القصاص.

وفي فتح مكة (أعادها الله) أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل أناس وإن تعلقوا بأستار الكعبة، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجلٌ فقال: «ابن خطل متعلق بأستار الكعبة»، فقال: (اقتلوه) [رواه البخاري ومسلم].

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: «لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة، وامرأتين، وقال: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)» [رواه النسائي].

وذلك أيضا لأذيتهم الإسلام والمسلمين، فما كانت أستار الكعبة المشرّفة لتحميهم من شرع رب العالمين بعد الكفر المغلّظ الذي اقترفوه بأيديهم وألسنتهم.

وهذه الشواهد من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وغيرها كثير لا تنفي عنه صفة الرأفة والرحمة ولكنها كما قال تعالى: }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ{ [الفتح: 29]، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- منفذ لأمر الله -عز وجل- الذي قال له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ{ [التوبة: 12].

وكما أنه -صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة فهو نبي الملحمة، وأما النظر إلى الجانب المتعلق برأفته ورحمته مع أولياء الله وإسقاطه على أعداء الله فهذا منهج أولياء الطاغوت الذين أرادوا من المسلمين مداهنة أعدائهم، بل يريدون منهم أن يدخلوا في طاعتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، فإذا ما انتفض المسلم وسارع إلى أعداء الله يثخن فيهم ويعاملهم بمثل ما يعاملون به المسلمين من قتل وتشريد، سارع أولئك الشياطين للإنكار عليه محذرين من تشويه صورة الإسلام والمسلمين، فعن أي إسلام يتحدثون ولأي دين يتبعون؟


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

الغِلظة والشِدَّة على الكفار في سيرة النبي المختار ﷺ [1/2] أرسل الله رسوله محمدا -صلى الله ...

الغِلظة والشِدَّة على الكفار في سيرة النبي المختار ﷺ
[1/2]

أرسل الله رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، فصدع بدعوتهم إلى طريق الحق والهدى، فمَن قَبِل نالته هذه الرحمة، ومن ناوأه وعانده، جاهده وقاتله واستعمل معه الشدة والغلظة حتى يخضع لأمر الله، وفي سيرته -صلى الله عليه وسلم- خير شاهد ودليل.

فبعد قفول النبي -صلى الله عليه وسلم- من بدر أمر بقتل الأسير عقبة بن أبي معيط صبرا؛ وذلك لأنه كان من أشد الناس أذية للإسلام والمسلمين، قال الذهبي في «السيرة»: «وقتل بعرق الظبية عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله: من للصبية يا محمد؟ قال: النار؛ فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح؛ وقيل: علي، رضي الله عنه».

وفي أُحُد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل الأسير أبي عزة الجمحي، وكان ذا بنات، قال ابن كثير: «ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي، وقد كان في الأسارى يوم بدر، فمَنَّ عليه بلا فدية واشترط عليه ألا يقاتله، فلما أُسر يوم أحد قال: يا محمد امنن عليَّ لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك؛ فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين؛ ثم أُمر به فضُربت عنقه، وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين!».

وهذان الأسيران، لم يكن المقام معهما مقام مَنٍّ أو فداء أو رأفة، فإنها إن حصلت كان ذلك مما يؤثر في هيبة رسول رب العالمين، كما أوضح -صلى الله عليه وسلم- حين قتله لأبي عزة.

ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليدع من يؤذي الإسلام والمسلمين آمنا في سربه، وإن كانت أذيته بالقول والتحريض، كما فعل مع اليهودي كعب بن الأشرف.

قال ابن إسحاق: «وجعل يحرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينشد الأشعار، وبكى على أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر، ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل ابنة الحارث ثم شبب بنساء المسلمين».
وهنا صدر الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطف رأس هذا الطاغوت، وسأل عمّن يمكن أن ينفذ هذه العملية، فعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله) فقام محمد بن مسلمة، فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله قال: (نعم)» إلى آخر الحديث [رواه البخاري ومسلم].

وبعد غزوة الأحزاب توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة، ليحاصرهم جزاء نقضهم العهود، فكان حكم الله فيهم أن يُقتل رجالهم جميعا، وتُسبى نساؤهم وذراريهم.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أصيب سعدٌ يوم الخندق، رماه رجلٌ من قريش يقال له ابن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيمة في المسجد يعوده من قريب، فلما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخندق وضع السلاح، فاغتسل، فأتى جبريل -عليه السلام- وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، اخرج إليهم؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فأين؟) فأشار إلى بني قريظة، فقاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحكم فيه إلى سعد، قال: فإني أحكم فيهم أن تُقتل المقاتلة وأن تُسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم...»، قال عروة بن الزبير: «فأُخبرت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لقد حكمتَ فيهم بحكم الله)» [رواه مسلم]، وهكذا كانت الشدة والغلظة على أولئك الغدرة علاجا نافعا وعظة وعبرة لغيرهم.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك قد أخرج بني النضير من ديارهم وغنم أموالهم بعد أن كشف الله له سعيهم لقتله وهو بين أظهرهم، فلما لبث أن خرج وعاد محاصرا ومحاربا لهم فنصره الله عليهم، كما حارب بني قينقاع وحاصرهم، وكذلك فعل مع يهود خيبر إذ حاربهم وفتح حصونهم عنوة [انظر: سيرة ابن هشام].
ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسكت كذلك عن حق مسلم واحد قتل غدرا وظلما، كما يفعل دعاة السوء الذين يثبّطون المسلمين عن القيام لأخذ حقهم ممن قتل وسفك من دمائهم وانتهك من أعراضهم.


• المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ

• لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc11ar
...المزيد

قِصَّةُ مُهَاجِرَةٍ قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي ...

قِصَّةُ مُهَاجِرَةٍ

قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97-100].

وعن عبد الله بن السعدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) [رواه أحمد والنسائي].

وعن معاوية قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)» [رواه أحمد وأبو داود].

ولقد ظلت الهجرة وحتى زمن قريب، حلما يراود كثيرا من الموحدين والموحدات، إلى أن منّ الله تعالى على المسلمين بقيام دولة الإسلام، ففتحت أبوابها لهم، فتوافدوا عليها -وما يزالون- وحدانا وزرافات، كيف لا والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة على كل مسلم ومسلمة.

وللمهاجرات إلى أرض الخلافة قصص وحكايات، هي مزيج من الإقدام والخوف والمغامرات، يخالها السامع أحيانا نسجا من خيال، أو ضربا من مُحال.

أما صاحبة قصتنا فهي أخت موحدة، من اللاتي بعن الدنيا التي جاءتهنّ راغمة، وخرجن يبتغين وجه الله تعالى، نحسبها كذلك ولا نزكي على الله أحدا، هي عربية الأصل، ألمانية المولد والمنشأ، ولدت وكبرت وترعرعت في بلد صليبي محارب للإسلام والمسلمين، ولكنها -ولله الحمد- لم تتلوث بلوثات «المتأسلمين» المقيمين في ديار الكفر الأصلي، الذين يؤمنون بحوار الأديان، ويرون في الكافر «آخر» تجب موادته واحترام دينه ومعتقده، فبقيت تحمل فطرة سليمة لم تدنسها ذلة ولا سلمية.

تزوجت أختنا من شخص كان يحب الجهاد، وكان دائم البحث عن الحق، حتى سخّر الله له بعض الإخوة الذين أخذوا بيده وأناروا له السبيل، فعرف أن الجهاد في زماننا فرض متعين على كل مسلم، وحينها بدأ بالترتيب مع زوجه للخروج إلى أرض من أراضي الجهاد، إما إلى خراسان أو العراق أو الصومال أو الشيشان.

ولكن الخروج من ألمانيا إلى إحدى هذه البلدان حينها كان مغامرة كبيرة، قد تؤدي بصاحبها إلى الاعتقال والسجن، فقرر الزوجان الخروج إلى بلد يكون بمثابة الغطاء لوجهتهما الحقيقية، واختارا الخروج إلى اليمن بحجة طلب العلم، وفعلا، يسّر الله لهما السفر إلى اليمن رفقة وليدهما، الذي كان حينها يبلغ من العمر خمسة أشهر، ثم مكثا هناك سنة ونيّفا، إلى أن منّ الله تعالى عليهما بالهجرة إلى خراسان.

وصلت أختنا مع زوجها وابنها أرض خراسان العصية، حيث أنجبت مولودين آخرين قبل أن يقوم الجهاد في الشام، ويبدأ كثير من المجاهدين في خراسان بالخروج إليها، ولكنّ زوجها كان معارضا لهذا الأمر، وكان يرى في ذلك تفريغا لأرض خراسان -والتي هي بدورها أرض جهاد- من المجاهدين، ولا دار إسلام في الشام -فيما ظهر له لجهله بالواقع حينها- تلزمهم بالهجرة إليها.

وفي تلك الأثناء وقعت فتنة الغدر والخيانة، التي كان خلفها أمير القاعدة في خراسان السفيه أيمن الظواهري، إذ شجع على نكث البيعة وشق الصف، وأعطى لمجموعة الغادرين معه مسمى (تنظيم القاعدة في بلاد الشام).

وكانت أختنا وزوجها في حيرة من أمرهما بسبب ما حصل، غير أن الزوج ما فتئ يسأل ويستفسر باحثا عن الحق، إلى أن تبين له جليا خبث ومكر قيادة القاعدة، وأن ما حدث بينهم وبين الجولاني إنما هو أمر دُبِّر بليل بهيم.

غاب الزوج لأسبوعين متواصلين دون أن يترك وراءه أثرا، وفي تلك الأثناء حوصرت أختنا ومن معها في وزيرستان، ثم وفي ختام الأسبوعين عاد الزوج ليفاجئ أختنا: «تجهزي وجهزي الأطفال... خلال نصف ساعة ستنطلقون نحو الشام!»
كان وقع المفاجأة على الأخت كبيرا جدا، خاصة وأن الأوضاع هناك -حيث هم- كانت صعبة جدا، وأخبرها زوجها أنها ستسافر رفقة مجموعة من الأخوات، أما هو ومَن معه مِن الرجال فسيلتقونهم هناك في الشام، بإذن الله تعالى، حيث سيخرجون من طريق آخر شديد الخطورة، ولا مجال لاصطحاب النسوة والصبية في مغامرة كهذه.

تجهزت الأخت وبنوها وجاءتهم سيارة كبيرة استقلوها جميعا، وكنّ خمسة من النساء وعشرة أطفال، وبدأت رحلة الهجرة إلى الله تعالى... هكذا نحسبهم والله حسيبهم.

كان الجلوس في السيارة التي ضاقت بهم مُضنيا، ولكنّ الهدف من الرحلة كان يستحق التعب والعناء، وصلت المهاجرات وأشبالهن الحدود المصطنعة بين إيران المجوسية، وتركيا العلمانية، وكان المهرّبون قد اشترطوا على النساء أن يعطين أبناءهن منوِّما قدموه لهن، حتى لا يُسمَع لهم صوت أو بكاء عند عبور الحدود إلى تركيا، وقبلت الأمهات بذلك مكرهات على أن يساعدوهن على حمل الأطفال.

دقت الساعة الثانية عشرة ليلا فبدأ المسير، وكان الطريق عبارة عن جبال وعرة المسالك، واستغرق الوصول إلى حدود تركيا يومين كاملين! نعم يومان كاملان من المشي المتواصل وأختنا حافية القدمين، فنعلها قد تمزق بعد نصف ساعة من بدء الرحلة.

كانت الرحلة شاقة جدا، وقد كلفت بعض الأمهات غاليا، فإحدى الأخوات فقدت وليدها خلالها، نعم لقد مات ولدها قبل الوصول إلى حدود تركيا، وأخت أخرى أصيبت رضيعتها بالعمى!

وما إن وصلت قافلة المهاجرات وأبناؤهن الحدود المصطنعة، حتى ألقي القبض عليهم من قبل عساكر الجيش التركي الوثني، والذين أعادوهم نصف المسافة التي قطعوها تقريبا، ثم قالوا لهم عودوا من حيث أتيتم، ولكن المهاجرات ومن معهم عاودوا الكرّة نحو تركيا، وهذه المرة تمكنوا -بفضل الله- من الوصول ثم التسلل داخل تركيا التي مكثوا فيها عشرة أيام في انتظار تأمين طريق إلى الشام.

وفي تلك الأيام العشرة، ذاقت أختنا حلاوة الدنيا من جديد، بعد أن هجرت لذائذها في أوروبا، ورغبت عنها إلى جبال خراسان، حيث الفقر، والخوف، حيث باتت تتجول في المدن الحديثة، وتجرّب من جديدٍ أطعمة وحلويات كانت قد فقدتها منذ زمن طويل، فيما كانت تلك الأيام أول تجربة لأطفالها لهذا النمط المغري من الحياة.

وبقدر الراحة التي شعرت بها وقد اقتربت كثيرا من أرض الدولة الإسلامية، واقترب موعد الوصول إليها، كانت قلقة من البقاء لفترة أطول في تركيا، فتعتاد على هذه الحياة، وتفتنها المغريات، فتصدها عن الهجرة في سبيل الله، ولكنّ الله يسر لهنّ الدخول إلى الشام، فكانت المحنة الجديدة بأن دخلت مع أخواتها إلى المناطق التي تسيطر عليها الصحوات في شمال إدلب، إذ كان عليهن البحث من جديد عن طريق للوصول إلى الدولة الإسلامية.

ثم يسّر الله لزوج إحدى الأخوات التي كانت ضمن المجموعة، أن يدخل إدلب ويجتمع بهم لوضع خطة لإخراجهم من هناك إلى أراضي دولة الإسلام، ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه، إذ اعتُقل الأخ خلال الرحلة، من قبل جنود الجولاني والظواهري الذين ارتابوا في أمره، وبقي معتقلا لديهم ثلاثة أيام حتى نجاه الله من أيديهم، فعاد إلى الأخوات وكانت فرحة عظيمة لهنّ، إذ ظنت الأخت ومن معها أنه مقتول لا محالة! ويسر الله لهم الخروج من إدلب باتجاه حلب حيث مكثوا أيضا ثلاثة أشهر.

وهناك بلغ أختنا خبر تعرض زوجها للأسر على حدود إيران، فاسترجعت واحتسبت ذلك عند ربها.

ثم يسر الله لها ولأبنائها الطريق، فخرجوا نحو دار الإسلام المنشودة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الشرع، ينعمون فيها بعز الخلافة سالمين آمنين، ينتظرون عودة ذلك الحاضر الغائب، والحمد لله رب العالمين.


◾ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ
...المزيد

والذين كفروا بعضهم أولياء بعض لم يزل مشركو الديموقراطية في تركيا -ممن يزعمون الانتساب إلى ...

والذين كفروا بعضهم أولياء بعض


لم يزل مشركو الديموقراطية في تركيا -ممن يزعمون الانتساب إلى الإسلام- يعملون في خدمة العلمانية الأتاتوركية منذ نصف قرن من الزمن أو يزيد.

فكلما ضاقت بطواغيت الجيش التركي السبل في التصدّي لمخاطر الشيوعية أو القوميات الانفصالية، أو فشلوا في إدارة «العملية السياسية»، أو وصل اقتصادهم إلى حافة الانهيار، وعجز أولياؤهم من العلمانيين الصرحاء عن إدارة الوضع، جاؤوا بأولئك المغفلين من الإخوان المرتدين وأشباههم ليسلموهم مقاليد الحكم والاقتصاد وهم يعلمون حرصهم على النجاح في المهام الملقاة على عاتقهم لينالوا رضى العلمانيين واليهود والصليبيين، حتى إذا ما نفّذوا المهام التي كُلّفوا بها، أبعدهم طواغيت الجيش عن الحكم معلنين حرصهم على العلمانية بمفهومها الأتاتوركي.

والأمثلة على ذلك كثيرة لعل أبرزها قصة الطاغوت الهالك نجم الدين أربكان وتلامذته المرتدين رجب أردوغان وعبد الله غول ورفاقهم الذين لم يتعلموا من تجارب أستاذهم المتكرّرة مع الجيش والأحزاب العلمانية سوى أن التنازلات هي سبيلهم الوحيد لتركهم على كراسيّهم، وأن تنفيذ أوامر أمريكا وتحقيق مصالحها هما الوسيلة المثلى لإثبات ولائهم للصليبيين، وأن مداعبة أحلام السذج والبسطاء بتاريخ العثمانيين الضالين طريق مختصر لاجتذاب قلوبهم وعقولهم وأموالهم، فيوقعونهم في الردّة بإشراكهم في الانتخابات دعما لهم للوصول إلى مجلس تشريع القوانين الوضعية، ورئاسة الحكومة العلمانية الطاغوتية.

واليوم يتجاوز الطاغوت أردوغان مخاوفه القديمة بخصوص دفع قواته وراء الحدود المصطنعة لقتال الدولة الإسلامية، ويستجيب لطلب أوباما القديم له باستخدام «جيشه الضخم» لحسم المعركة في الشام، وذلك بالضغط عليه بورقة مرتدي الـ PKK، وإرهابه بقصة الانقلاب، ليزج بعدة فرق من جيشه في ساحة معركة لم يألفها من قبل، بالاستناد إلى حلفاء لا يمكن الاعتماد عليهم أو الوثوق بقدراتهم، وفي ظل حالة توازنات قد تختل في أي لحظة، ليقع الجيش التركي المرتد في مصيدة الحرب اللامنتهية التي أحجمت جيوش كبرى في العالم عن الخوض فيها مخافة الانزلاق إلى مصير القوات السوفييتية في أفغانستان والأمريكية في العراق، واكتفت عوضا عن ذلك بالقصف الجوي والدعم عن بعد للعملاء على الأرض.

إن الضجة الحاصلة اليوم بخصوص قضية دخول الجيش التركي المرتد لقتال الدولة الإسلامية في ولاية حلب، لا تعدو كونها مناكفات بين المشركين المتحالفين على قتال أهل التوحيد، ولن يلبثوا أن يجمعوا أمرهم على صيغة تفاهم جديدة، بترتيب وضع جديد للجيش التركي ضمن خطة الحرب الشاملة على الدولة الإسلامية التي وضعتها أمريكا ووظفت لها أمم الكفر كلها بطريقة تقاسم الأدوار والتكاليف، مثلما تم ترتيب وضع هذا الجيش في معارك التحالف الصليبي ضد الدولة الإسلامية في ولاية نينوى رغم اعتراضات حكومة الرافضة في بغداد، حيث دخل الجيش التركي منذ فترة طويلة وأنشأ قواعده العسكرية، ونشر قواته ومدرعاته على خطوط القتال مع جنود الخلافة، ولا يزال يساهم في الحرب عليهم من خلال تدريب مرتدي البيشمركة، وإمدادهم بالسلاح، وإسنادهم بالقصف والخبرات.

إن الطاغوت أردوغان وجيشه المرتد وحلفاءهم المفحوصين من صحوات الردة لن يتجاوزوا المهام المحدّدة لهم من قبل أمريكا الصليبية، وإن قواعد حرب الدولة الإسلامية لن تتغير بتغير ألوان رايات المشركين، وإنّ جَلْب المزيد من القوات لقتال جنود الخلافة إنما يثبت -بفضل الله- عجز القوات الموجودة في ساحة المعركة عن حسمها، ويكشف حجم استنزاف تلك القوات على يد مقاتلي الدولة الإسلامية وانغماسييها واستشهادييها، وسيصل بهم الأمر قريبا -بإذن الله- إلى العجز عن إمداد حلفهم بالمزيد من القوات، ولن يكون إلا ما وعد به الله عباده الموحدين من النصر والتأييد، {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].


◾ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 46
الثلاثاء 4 ذو الحجة 1437 ه‍ـ
...المزيد

يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فرض الله تعالى القتال على عباده دون إمائه، فظن كثير من ...

يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ

فرض الله تعالى القتال على عباده دون إمائه، فظن كثير من النساء -نساء عصرنا- أن لا جهاد عليهن أبدا، وفاتهن أنه قد بقي من أنواع الجهاد جهاد عظيم، قدَّمه الله على الجهاد بالنفس في جميع المواضع في الكتاب العزيز، إلا موضعا واحدا؛ إنه الجهاد بالمال، الذي لم يسقط في حق المرأة، كما سقط في حقها جهاد السيف من حيث الأصل، ورحم الله بعض نساء السلف، فقد كانت الواحدة منهن إذا لم تجد ما تنفقه على الغزاة، قصت ظفيرتها وجعلتها عقالا للخيل الغازية، فأين المشمّرات إعلاء لكلمة الله تعالى في الأرض، وأين المنفقات لنصرة هذا الدين؟ والجزاء جنة عرضها السماوات والأرض، بإذن الله تعالى.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10-11]، إيمان بالله تعالى ثم جهاد في سبيله بالمال والنفس، والجهاد بالمال مقدّم لأن المال هو الذي يُبدأ فيه بالإنفاق لإعداد العدة وتجهيز الجيوش، والجهاد بالنفس فيه أهل الأعذار الذين لا حرج عليهم إن تخلفوا، والمرأة مستثناة منه، أما الجهاد بالمال فلا عذر فيه لمن أغناه الله من فضله وتأخر عن الإنفاق، لا فرق فيه بين الرجل والمرأة، والشيخ والشاب، والأعمى والبصير، والمقعد والسليم، أما من كان فقيرا فلا حرج عليه لقول الله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92].

وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [رواه أبو داود].

يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في الحكمة من تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس: «وفائدة ثانية وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها، التي تبذل ذاتها في تحصيله، وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبيه المجاهدين في سبيله، إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته، فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه، نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها، وهي بذل نفوسهم له فهذا غاية الحب» [بدائع الفوائد].

ومعلوم أن النساء -إلا من عصم الله، وهنّ قليلات- يكثرن اللغو وكفران العشير والغيبة وما إلى ذلك من الذنوب المهلكة، فأرشدهنّ النبي ﷺ إلى ما يكفّرن به عن بعض ما يقترفنه في الدنيا، فعن أبي سعيد الخدري، قال: «خرج رسول الله ﷺ في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرّ على النساء، فقال: (يا معشر النساء تصدّقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار) فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير...)» الحديث [رواه البخاري].
وها هي أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- ورغم فاقتها وحاجتها، أسماء التي لم تكن تملك ذهبا ولا حليا، تسأل النبي ﷺ عن الصدقة، فعن ابن أبي مليكة، قال: «حدثتني أسماء بنت أبي بكر، قالت: قلت: يا رسول الله، ما لي شيء إلا ما أَدخل الزبير على بيتي، فأعطي منه؟ قال: (أعطي، ولا توكي، فيوكى عليك)» [رواه أبو داود].

قال ابن حجر: «والمعنى النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة؛ لأن الله يثيب على العطاء بغير حساب، ومن لا يحاسب عند الجزاء، لا يحسب عليه عند العطاء، ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب، فحقه أن يعطي ولا يحسب» [فتح الباري].

يجود علينا الطيبون بمالهم
ونحن بمال الطيبين نجود

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «قال رسول الله ﷺ: (إنّ الله -عز وجل- يقبل الصدقات، ويأخذها بيمينه، فيربّيها لأحدكم كما يربّي أحدكم مُهره، أو فَلُوَّه حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد)» [رواه الترمذي].

فكيف إذا كانت هذه الصدقات لتجهيز المجاهدين في سبيل الله؟ وهل يقيم الدين ويحمي بيضة الإسلام غير المجاهدين؟ وهل يذود عن الأعراض ويكسر أنف الكفر غير المجاهدين؟

روى البخاري في «باب فضل من جهّز غازيا أو خلفه بخير» عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: (من جهّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا)؛ وهذا ما فقهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فتاجر مع الرحمن تجارة أورثته الجنان، ولم يجهّز غازيا واحدا فحسب بل جيشا بأكمله لغزوة تبوك، هو جيش العسرة وما أدراك ما جيش العسرة، ذاك الجيش الذي ما سمي بالعسرة إلا لأنه كان في أيام عسيرة وأوقات عصيبة على المسلمين، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: جاء عثمان إلى النبي ﷺ بألف دينار، حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره، قال عبد الرحمن: فرأيت النبي ﷺ يقلّبها في حجره ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) مرتين. [رواه الترمذي].
بل لقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية لطيفة فقهية نفيسة تبيّن منزلة الجهاد بالمال وتقديمه على عموم الصدقات، فقال رحمه الله: «لو ضاق المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه، قدّمنا الجهاد وإن مات الجياع، كما في مسألة التترس وأولى، فإن هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله» [الفتاوى الكبرى].

وإنّا إن تأملنا في حال بعض النساء اليوم، نلحظ إسرافا منهن على متاع الدنيا الزائلة، من لباس وزينة وولائم وما إلى ذلك، وفي المقابل نجد تقتيرا وشحا على دين الله تعالى وهو الغني ونحن الفقراء: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، فهل تكون المسلمة طويلة اليد إلى أمور الدنيا، قصيرة اليد إلى ما ينفعها في آخرتها؟ وهل من متأسية بسودة زوج النبي وأم المؤمنين؟ فعن عائشة، رضي الله عنها: أن بعض أزواج النبي ﷺ قلن للنبي ﷺ: «أيّنا أسرع بك لحوقا؟ قال: (أطولكن يدا)، فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد أنما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به وكانت تحب الصدقة» [رواه البخاري ومسلم].

ولا تظن المسلمة أن الله تعالى لا يقبل إلا الكثير والوفير، بل رُب درهم سبق ألف درهم، ورب نصف تمرة يتصدق بها صاحبها في الدنيا تقيه نار الآخرة، فعن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: «كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}) إلى آخر الآية، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]. (تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) -حتى قال- (ولو بشق تمرة) قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله ﷺ: (من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)» [رواه مسلم].

ولا تظن المسلمة أن الله تعالى لا يقبل إلا الكثير والوفير، بل رُب درهم سبق ألف درهم، ورب نصف تمرة يتصدق بها صاحبها في الدنيا تقيه نار الآخرة، فعن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: «كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}) إلى آخر الآية، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]. (تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) -حتى قال- (ولو بشق تمرة) قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله ﷺ: (من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)» [رواه مسلم].
وإذا فات المسلمة في الجهاد بالسيف من الخير الكثير، وذلك من فضل الله تعالى على الرجال، فها هو باب الجهاد بالمال العظيم مفتوح على مصراعيه ينتظر المتاجرات مع ربهن تجارة لن تبور أبدا، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى الكبرى: «ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله، وجب عليه الجهاد بماله، وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن، في سورة براءة عند قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل».

وبعض النساء تكنز الذهب قائلة: لعلِّي لا أجد يوما ما أنفق -على الدنيا طبعا- فأبيع من هذا الذهب. ولكن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لم تكن تتبع نفس السياسة، فعائشة تصدقت بسبعين ألفا وإنها لترقع درعها، بل ويرسل إليها معاوية -رضي الله عنه- بمائة ألف درهم، فلم تغرب شمس ذاك اليوم إلا وقد تصدقت بها كلها، فتقول لها جاريتها: «لو اشتريت لنا منها بدرهم لحما؟» فتجيبها أم المؤمنين: «ألا قلت لي؟»

فإن كان هذا حال أمهات المؤمنين والصحابيات مع الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وهنّ من هنّ، أفلا يجدر بمن هن دونهن من المسلمات ممن آتاهن الكريم من فضله، أن يتزودن لدار القرار، ما دمن في سعة من الأمر وأمنة من العيش، والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المنافقون: 10-11].


* المصدر
صحيفة النبأ - العدد 45
الثلاثاء 26 ذو القعدة 1437 ه‍ـ

◾ لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
...المزيد

يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ [3/3] ولا تظن المسلمة أن الله تعالى لا يقبل إلا الكثير ...

يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ

[3/3]
ولا تظن المسلمة أن الله تعالى لا يقبل إلا الكثير والوفير، بل رُب درهم سبق ألف درهم، ورب نصف تمرة يتصدق بها صاحبها في الدنيا تقيه نار الآخرة، فعن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: «كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}) إلى آخر الآية، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]. (تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) -حتى قال- (ولو بشق تمرة) قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله ﷺ: (من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)» [رواه مسلم].

وإذا فات المسلمة في الجهاد بالسيف من الخير الكثير، وذلك من فضل الله تعالى على الرجال، فها هو باب الجهاد بالمال العظيم مفتوح على مصراعيه ينتظر المتاجرات مع ربهن تجارة لن تبور أبدا، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى الكبرى: «ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله، وجب عليه الجهاد بماله، وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن، في سورة براءة عند قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل».

وبعض النساء تكنز الذهب قائلة: لعلِّي لا أجد يوما ما أنفق -على الدنيا طبعا- فأبيع من هذا الذهب. ولكن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لم تكن تتبع نفس السياسة، فعائشة تصدقت بسبعين ألفا وإنها لترقع درعها، بل ويرسل إليها معاوية -رضي الله عنه- بمائة ألف درهم، فلم تغرب شمس ذاك اليوم إلا وقد تصدقت بها كلها، فتقول لها جاريتها: «لو اشتريت لنا منها بدرهم لحما؟» فتجيبها أم المؤمنين: «ألا قلت لي؟»

فإن كان هذا حال أمهات المؤمنين والصحابيات مع الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وهنّ من هنّ، أفلا يجدر بمن هن دونهن من المسلمات ممن آتاهن الكريم من فضله، أن يتزودن لدار القرار، ما دمن في سعة من الأمر وأمنة من العيش، والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المنافقون: 10-11].


* المصدر
صحيفة النبأ - العدد 45
الثلاثاء 26 ذو القعدة 1437 ه‍ـ

◾ لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
...المزيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً